الجمعة 19 نيسان/أبريل 2024

بدر الخريف   
تلبس الجنادرية في عرسها الثقافي والتراثي السنوي رداءها الجديد الـ 30 بعد أن تدثرت به طوال ثلث قرن، وسيكون الوطن حاضراً بقوة في الجنادرية من خلال فعاليات مختلفة إضافة إلى الحفل الخطابي والفني، كما ستكون ألمانيا ضيف شرف لمهرجان هذا العام.


يرعى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز المهرجان الوطني للتراث والثقافة في دورته الثلاثين يوم 3 فبراير 2016م. وهي الرعاية الأولى للملك سلمان للمهرجان، في دورته الـ 30 التي تأجلت العام الماضي بسبب وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، وقدم الأمير متعب بن عبدالله عبدالعزيز وزير الحرس الوطني رئيس اللجنة العليا للمهرجان أسمى آيات الشكر والامتنان لخادم الحرمين الشريفين على رعايته واهتمامه بهذه المناسبة الوطنية وهو ما كان له أكبر الأثر في أن تصل إلى ما وصلت إليه من نجاحات متواصلة، معربًا عن اعتزاز منسوبي وزارة الحرس الوطني بتنظيم مهرجان الجنادرية الذي أضحى أحد المكتسبات الوطنية المميزة.
ويعد المهرجان الوطني للتراث والثقافة "الجنادرية" عرساً ثقافياً عربياً سنويا كبيراً ولد من رحم مؤسسة عسكرية تحولت إلى واجهة حضارية وقدمت للوطن هذا المشروع الثقافي والتنويري معيدة إلى الأذهان التجمعات الثقافية والمهرجانات والأسواق المماثلة التي شهدتها المدن والمراكز الحضرية في الجزيرة العربية قبل وبعد الإسلام عندما كان الشعراء يتهافتون إلى مكة المكرمة من كافة أنحاء الجزيرة ومن خارجها حاملين قصائدهم الخالدة ليتم تعليق أكثرها حضوراً عند المتلقين على جدران الكعبة وأستارها فكانت المعلقات العشر وأصبحت في ذاكرة الملايين منذ عشرات القرون وإلى اليوم، كما أعاد المهرجان الى الأذهان أولئك الشعراء الذين كانوا يتبارون في سوق عكاظ في الطائف ناثرين إبداعاتهم الشعرية التي كانت ميزة عربية حيث مثلت القصيدة في ذلك الوقت قيمة وأهمية نادرتين وكانت بمثابة الصحيفة والإذاعة والقنوات الفضائية بمقياس الزمن الحاضر.

وكان الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد فتح  قبل 30 عاماً نافذة ثقافية إلى العالم من عاصمة بلاده الرياض التي خرج من أطرافها قبل 1500 عام "صناجة العرب" الشاعر الكبير الأعشى ميمون بن قيس وأصبح أحد ألمع الوجوه في سوق عكاظ واستماتت قريش في ثنيه عن مقابلة نبي هذه الأمة في بدايات ظهور الإسلام، خشية من أن يساهم شاعر منفوحة في نشر الإسلام بمدحه النبي محمداً صلى الله عليه وسلم، وكاد الأعشى أن يسلم لولا إغراءات قريش له وطلبهم منه إرجاء مقابلته للنبي للعام القادم ولم يتمكن من ذلك حيث عاجله الموت على ناقته في رحلة العودة إلى قريته منفوحة التي تحولت اليوم إلى أحد أحياء الرياض.

ويقام مهرجان «الجنادرية الـ 30» وسط ظروف إقليمية وعربية غاية في الصعوبة، لكن، ورغم ذلك، فإن المهرجان الذي يعد حدثاً لافتاً على مستوى العالم سيكون بالفعل تظاهرة ثقافية تؤكد أن السعودية ستظل رقماً مهماً ليس في الجانب الاقتصادي والسياسي، بل وفي الجانب الثقافي والفكري، كما يؤكد المهرجان أن المؤسسة العسكرية المتمثلة في الحرس الوطني راعية المهرجان تجاوزت المفهوم السائد عن القطاعات العسكرية حيث تحولت هذه المؤسسة إلى مؤسسة حضارية نجحت في صياغة الجندي السعودي ووسعت مداركه ورفعت مستوياته العلمية والثقافية، وهو ما جعل الحرس الوطني يسجل اسمه كمؤسسة ثقافية عالمية، ومن مفردات النهضة الحديثة للبلاد، ونبتة ثقافية وتنموية وصانعة للرجال وسط الصحراء، كما غير المهرجان الصورة النمطية المكررة عند الغربيين عن مجتمع الجزيرة العربية.

وأصبحت الجنادرية، تلك القرية التي قامت وسط الصحراء وتنمو في وديانها شجيرات العشرق، تتلاعب بها الرياح مصدرة أصواتاً تشبه أصوات خلاخيل النساء منبعثة من حبيبات ثمرتها التي أيبستها أشعة الشمس ورياح الخماسين الحارقة ليعيد المهرجان الأصوات ذاتها من خلال وقع قرع الطبول ونغمات الربابة، آلة العربي التي يقطع بها سكون الصحراء ويبث فيها غنائياته في أحزانه وأفراحه معيداً بذلك وقع سير الإبل ورغائها، في حين أن الحادي يردد شعر الرجز الذي يناسب وقع سير سفينة الصحراء، كما يستذكر المهرجان الذي حمل اسمه من صحراء الجنادرية الرملية واقع البلاد قبل وبعد التوحيد، ويرسم صورة لأصالة الوطن وتراثه ورحلة كفاح الآباء والأجداد، وستجسد فرق شعبية من مختلف أرجاء البلاد اللحمة الوطنية، كما تعطي مئات الحرف ومعارض متنوعة وخاصة وعدد من الفعاليات المختلفة والمتنوعة واقع المسيرة التراثية والثقافية للوطن.

ألمانيا ضيف شرف للمهرجان
وحيث يقيم ستة آلاف مواطن ألماني في السعودية ، تم اختيار ألمانيا ضيف شرف للمهرجان هذا العام، وستقام المشاركة الألمانية تحت شعار (للابتكار تقاليد)، وهو ما يعني إن الأفكار الألمانية والتكنولوجيا الألمانية، حاضرة في جميع أنحاء العالم، لذلك فإنه إلى جانب كون ألمانيا بلد التقاليد فإنها أيضاً بلد الابتكار، فهو جزء لا يتجزأ من التقاليد، وهذا هو سبب اختيار المشاركة الالمانية لشعار "للابتكار تقاليد".

مع انطلاقة المهرجان الوطني للتراث والثقافة في عامه الـ 30 برعاية الملك سلمان بن عبد العزيز يستذكر المهرجان مهندس هذا التجمع الثقافي والفكري العربي الذي انطلق عام 1985م، من الرياض المدينة التي شهدت أيضاً انطلاقة أكبر وحدة تحققت في العالم العربي في العصر الحديث ألا وهو الشيخ الراحل عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الحرس الوطني المساعد بعد رحلة كفاح طويلة عاشها منذ بدأ حياته العملية متطوعاً في صفوف جيش الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن وعمره آنذاك لا يتجاوز الـ 14 عاماً، ليحظى باهتمام الملك المؤسس ويأمر قبل 81 عاماً بتعيين الصغير مشرفاً على بيت مال المجمعة وسدير والزلفي وبعد 7 سنوات عينه رئيساً للمالية ذاتها، وفي عام 1961م صدر مرسوم ملكي بتعيين التويجري وكيلاً للحرس الوطني، وبعد 14 عاماً من هذا المرسوم صدر مرسوم مماثل بتعيينه نائباً لرئيس الحرس الوطني المساعد بالمرتبة الممتازة عقبه بعد عامين مرسوم آخر بتعيينه في ذات المنصب بمرتبة وزير، وخلال 13 عاماً بدءاً من عام 1979م حمل الراحل عضوية مجلس القوى العاملة والمجلس الأعلى للدفاع المدني واللجنة العليا لإعداد النظام الأساسي للحكم واللجنة العليا لإعداد نظام مجلس الشورى واللجنة العليا لإعداد نظام المناطق بالإضافة لنيابته لرئيس مجلس إدارة مكتبة الملك عبد العزيز العامة ولرئيس اللجنة العليا بالحرس الوطني ولرئيس هيئة الإشراف على مجلة الحرس الوطني ولرئيس اللجنة العليا للمهرجان الوطني للتراث والثقافة.
ولازم التويجري الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز وشارك في معظم رحلاته منذ عين رئيساً للحرس الوطني عام 1964م إلى مختلف دول العالم، كما شارك في العديد من المؤتمرات الدولية والإسلامية والقمم العربية والخليجية وتمتع بصداقات مع قادة وشخصيات عالمية وعربية، ونظراً لحضوره المحلي والإقليمي والعالمي فقد حصل الراحل على شهادة تقدير من جامعة جورجيا الأمريكية كأحد الشخصيات المشاركة في الدراسة المتعلقة بصانع القرار الإستراتيجي، كما خصصت له جامعة هارفارد الأمريكية كرسي زمالة يحمل اسمه يهدف إلى توفير منح دراسية للطلاب المتفوقين من مختلف أنحاء العالم للدراسة في هذه الجامعة العريقة، كما تم في مركز الأبحاث والكبد في جامعة لندن إنشاء قاعة تحمل اسم الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، وحصل على عدد من الأوسمة والميداليات، كما أنجز الراحل مشاريع خيرية واجتماعية وتعليمية داخل بلاده وخارجها أنفق عليها من جيبه الخاص.
وخلاف مشاركاته الفكرية وهواية القراءة التي تأتي في طليعة هواياته أنجز التويجري 13 مؤلفاً في حياته ومؤلفاً أخيراً طبع بعد مماته بـ 3 سنوات وهي: في أثر المتنبي بين اليمامة والدهناء (طبع مرتين بالقاهرة وبيروت)، حتى لا يصيبنا الدوار (رسائل إلى ولدي)، منازل الأحلام الجميلة (رسائل إلى ولدي)، حاطب ليل ضجر (جزئين)، أبا العلاء ضجر الركب من عناء الطريق، خاطرات أرقني سراها، لسراة الليل هتف الصباح (دراسة وثائقية عن الملك المؤسس عبد العزيز) وطبع منها 6 طبعات، ذكريات وأحاسيس نامت على عضد الزمن، رسائل خفت عليها الضياع، عند الصباح حمد القوم السرى (دراسة وثائقية عن الملك عبد العزيز)، أجهدتي التساؤلات معك أيها التاريخ، ركب أدلج في ليل طال صباحه، الإنسان رسالة وقارئ وأخيراً كتابه الذي صدر العام الماضي وعنوانه: عزيزي النفط ماذا فعلت بنا؟ وتساءل فيه عن النفط وأيامه وأحداثه وعن أحداث الخليج وعن محكمة التاريخ التي تنبأ بتشكلها مع اندلاع نيران الخليج وحريق نفطه لتطارد كل من عليه شبهة أو تهمة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر فيجدر بنا أن نستعيد أجزاء من كلمة الراحل الشيخ عبد العزيز التويجري التي ألقاها في انطلاقة أول مهرجان وطني للتراث والثقافة (الجنادرية 1) عام 1985م والتي حملت معان ودلالات تؤكد ما يتمتع به الراحل من حس ديني وقومي وحب لهذا الوطن وقيادته واستحضر فيها حياة الآباء والأجداد في عصر تباعدت فيه الخطى بين الأمس واليوم.
قال التويجري في كلمته التي خاطب فيها راعي المهرجان في انطلاقته الأولى الملك الراحل فهد بن عبد العزيز : بالأمس الذي مضى كانت سفينة الصحراء فيه الجمل واليوم صارت سفينة الفضاء ومراكب العصر وجماله أكواماً من الحديد ألفها عقل الإنسان وذهنه من مادة هذا الكون. فحاضر يدير ظهره لماضيه يامولاي ماذا عنه؟ وعلى أي سارية يتكئ؟ لا شيء… ففي الماضي القيم والمثل العليا والتراث وحياة الآباء والأجداد، فيه آدابهم وسلوكهم، فيه الأصالة. مضيفاً: إذا كانت العصور الخوالي لا تملك النجاح ولا وسائل العصر وتحوله الرهيب فقد عاشت حياتها دون عناء أو ضجر. أما اليوم فنحن في عصر غزو الفضاء يعز علينا ماض فيه التراث الغالي على نفوسنا. نعم يعز علينا أن تذهلنا عنه هذه الحضارة التي ماعرفها الإنسان منذ وجد على ظهر هذه الأرض.
وشدد التويجري بالقول: إذا كان قدرنا نحن أبناء هذا الجيل أن نلتقي بكل من في الأرض وما فيها من أسلوب حياة وتفكير وعلوم وآداب فليس في إمكاننا مثلما ليس في إمكان أحد سوانا أن يبني جداراً من العزلة عن هذا العالم، مضيفاً: لنظل نستحضر معاً وأينما كنا مؤسس دولتنا الحديثة الملك عبد العزيز رحمه الله ورجاله المخلصين فهم الذين أوصلونا إلى هذا الواقع الكريم بعد الله، وهم الذين آخوا بيننا وعلقوا في رقابنا هذه الأمة العظمى قيادة وشعباً. فعلى سمعتنا يجب أن ندرك أن مسيرة اليوم في هذا العصر بالذات لا تقل في همومها ومعاناتها وظروف حياتها عن مسيرة المؤسس الكبير، مؤسس المملكة الحديثة، حيث قال عنه أحد مفكري العرب وكتابهم: منذ عهد الخليفة عمر حتى عهدكم السعودي لم يسعد العرب في شبه الجزيرة العربية لمن يجمع شملهم ويوحد كلمتهم، وزاد على ذلك بالقول كان في بني أمية معاوية، وفي بني العباس المأمون، وفي الأيوبيين صلاح الدين، ثلاثة من عظماء الرجال في التاريخ العام، ولكنهم وإن وصلوا إلى ذرى المجد لم يتمكنوا من بسط سيادتهم على الجزيرة العربية كلها حتى كتب لهم بعبدالعزيز وليجمع شملهم ويوحد كلمتهم ويعزز جانبهم ويؤسس ملكاً عربياً هو منهم وهو فيهم وهو لهم.
وقال مخاطباً الملك الراحل فهد بن عبد العزيز: هنا ياصاحب الجلالة يتسامى أمام هذا العالم المعاصر دور المملكة العربية السعودية وهو دور حضاري إنساني لا يضيق صدره بكل ما في هذا العالم من صراع لا يهدأ ولا يستريح في عشية أو ضحاها دؤوب وراء ما أودعه الله من أسرار في الإنسان وفي الكون.
وشدد الشيخ التويجري في نهاية كلمته التي ألقاها مع انطلاقة أول مهرجان وطني للتراث والثقافة قبل ثلاثين بالقول: لأننا جزء من أمة كبرى ذات رسالة إنسانية لا تعترف بالتقسيمات والحدود خفق علمها الواحد في يثرب ثم خفق في دمشق الأموية، ثم حملته بغداد الرشيد، فقاهرة المعز، وهكذا. وما لم نستحضر هذا التاريخ في نفوسنا ولا نلقي به تراثاً موزعاً بين ثنايا الزمن وجيوبه في عالمنا الكبير فلا أمل في تراجع الأعداء عن وجودنا.
وقبل 8 سنوات رحل الشيخ التويجري عن هذه الدنيا تاركاً ذكرى عطرة وسفراً خالداً من المؤلفات لرجل أعطى للوطن من وقته الشيء الكثير، ومع إطلالة العرس الثقافي السنوي بالجنادرية يحضر الشيخ الفيلسوف بقوة فهو مهندس انطلاقته ومحقق حلم الملك عبد الله في تحويل البوابة الثقافية والتراثية السعودية للعالم إلى واقع ملموس.