في زمن شحت فيه الكتب والكتاتيب، وتاقت النفس لتذوق المعرفة، بقراءة سطر وأسطر، وصفحة تتلوها صفحات، وحفظ آيات بينات، ومسك قلم.. بجانب المسجد وفي غرفة كبيرة مسقوفة بأعمدة ومبنية من الطين واللبن، سقفها من
خشب الأثل وجريد النخل، كان هناك طلبة علم يتحلقون حول شيخهم، تلتقط آذانهم ما يتفوه به الشيخ. يكتب بعضهم على لوح من خشب بقلم مصنوع من أغصان الشجر الصلب أو أعواد القصب المدبب، أو على ورق أصفر قديم، يسأل أحدهم عن كتاب "القواعد وتحرير الفوائد" لابن رجب الحنبلي وآخر عن "شرح صحيح مسلم" لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، وثالث عن كتاب "الروض المربع شرح زاد المستنقع" لمنصور بن يونس البهوتي. ويطرق اليأس قلوب هؤلاء بجواب الشيخ من أين؟ سمعت أنه في دمشق؟ ومرة أخرى يقول في بغداد؟ ثم يبشرهم بأنه سمع بأنه في حائل؟ وبعد فترة يقول إنه في الرياض، لكن عند مَنْ؟ وكيف الحصول عليه؟
نساء يحضرن درس إمام المسجد، ويسمعن بسؤال بعض طلبة العلم عن كتب معينة، وينتقل حديثهن إلى بعضهن في منازلهن، فتتقد عزيمة بعضهن بتوفير الكتب عن طريق الشراء ووقفها على طلبة العلم، متأسيات بفعل خالد في تاريخ الإسلام اسمه "الوقف". من هنا تنبعث حركة علمية في الرياض بداياتها بسيطة لكنها ما تلبث أن تنشط رويداً رويداً مع الأيام والسنين وما أن نصل إلى القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي حتى تتصدر أسماء نسوية دفعن عجلة التعليم إلى الأمام من بينهن مجموعة من أميرات آل سعود وحفيدات الشيخ محمد بن عبدالوهاب ونساء أسر شهيرة نذكر منهن: نورة بنت الإمام فيصل بن تركي والتي أوقفت خلال الفترة 1276هـ -1283هـ /1860م -1866م مجموعة من الكتب الدينية، وسارت على خطاها أختها الجوهرة وعمتها سارة بنت الإمام تركي وعمة أخرى هي الجوهرة بنت الإمام تركي، كما حذت حذوهن منيرة بنت مشاري بن حسن آل سعود وهي والدة الإمام عبدالله بن فيصل بن تركي . والملاحظ أن وقفيات أميرات آل سعود كانت في فترة مجد الرياض وازدهارها العلمي في الدولة السعودية الثانية، وظللن وفيات لحركة العلم في الرياض، ففي فترة سيطرة آل رشيد على الرياض بعد سقوط الدولة السعودية الثانية، ورغم الشعور بمرارة التفكك وتشتت الأسرة إلا أن جذوة العلم ظلت متقدة من خلال مساندة بعض الأميرات، فمما وصلنا أن الجوهرة بنت الإمام فيصل بن تركي أوقفت مجموعة من الكتب في عام 1318هـ- 1901م. مؤكدة بذلك عمق وفائها لمدينتها وأن زوال حكم أسرتها لم يمنعها من الاستمرار في فعل الخير. ومن النساء الأخريات اللاتي اسمهن في الوقف سارة بنت الشيخ علي بن محمد بن عبدالوهاب ولطيفة بنت إبراهيم أبا الغنيم، والجوهرة بنت عبدالعزيز بن سليمان بن عبدالوهاب التي أوقفت كتابين على ابنها بعد وفاته وجاء نص الوقفية على واحد من الكتابين كما يأتي: "ليعلم الناظر إليه أن الجوهرة بنت عبدالعزيز بن سليمان بن عبدالوهاب قد أوقفت هذا الكتاب لابنها محمد بن حسن الباهلي رحمه الله على طلبة العلم لا يمنع من أراد المطالعة فيه ولا يعار أكثر من شهرين وجعلت النظر في ذلك للمكرم إبراهيم بن عبدالرحمن بن طوق ولعيسى بن عبدالله بن عكاس فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، 8 شوال 1295هـ ". أسماء أخرى كثيرة عدا ما ذكرته سابقاً، تظهر كيف أن نساء الرياض شغفن بالإسهام والمشاركة من أجل توفير أدوات العلم لطلابه وأبدين حرصاً كبيراً على إتاحة ما تيسر من كتب مخطوطة أو مطبوعة لتكون بين أيدي طلبة العلم الذين لم يكن وضعهم المادي يساعدهم على الوصول إلى مثل تلك الكتب. وتحتفظ مكتبات مدينة الرياض بمجموعة جيدة من الكتب المخطوطة والمطبوعة التي كانت نتاج فعل الخير لنساء استشعرن عظم المسؤولية على عواتقهن نحو مجتمعهن فدفعن الأموال رغم شحها لشرائها ووقفها على من يحتاج إليها من الرجال والنساء.
في أحياء وشوارع الرياض القديمة وأشهرها معكال، والعطايف، والديرة، والظهيرة، ترددت أسماء نساء حظين بشهرة، يعرفهن أهل الرياض كونهن جعلن منازلهن مدارس (كتاتيب) تستقبل فتيات الرياض لتعليمهن أمور دينهن إضافة إلى الأخلاق والآداب الإسلامية وتنمية وعيهن العلمي مستقبلاً، الأسماء كثيرة، ولكن هناك مَنْ حظين بشهرة، منهن: أم راشد أبوحيمد وزيرة أم سعد، ولولوة بنت عبدالله الطويل، ومنيرة بنت سعد آل الشيخ، ولطيفة فوزان القديري، وطرفة بنت محمد الخريف، وموضي بنت حمد الحمد، ومنيرة بنت سعود الفوزان، والأخيرة تولت أيضاً تعليم بنات وحفيدات الملك عبدالعزيز. وكن هؤلاء النساء (المطوعات كما كان يطلق عليهن) في الغالب لا يأخذن أجراً إلا من ميسوري الحال، ويقبلن ببعض الهدايا في الأعياد أو عند ختم الفتاة للقرآن الكريم، أو عند قدوم ولي أمر الفتاة من الحج أو السفر، وعند الأضاحي والمناسبات المختلفة. تتجلى في الصور السابقة كيف عملت المرأة في الرياض على مساندة التعليم وتوفير أدواته للجنسين من خلال وقف الكتب وإنشاء كتاتيب للنساء ومما يدل على وعي أولئك النسوة بأهمية العلم وأن إسهامهن أمر مطلوب لحضور المرأة في الحياة العامة. وهناك صور أخرى لمشاركة نساء الرياض في الحياة الاجتماعية والاقتصادية قد نتعرض لها في مقالات لاحقة.