عبد الله نور
لو أنّ الناسَ يطيرون من السحرِ الذي يحدث من سطوةِ الشعر إذا بلغ الجودة وفوق الجودة لكان أهل الرياض أسرع خلق الله إلى الطيران، روى الأصبهاني قصةَ مجلسٍ من مجالسهم قبل الإسلام حيث اجتمع الزبرقان بن بدر، والمخبل السعدي، وعبدة بن الطيب، وعمرو بن الأهتم فنحروا جزوراً وجلسوا يشوون ويأكلون فقال بعضهم:
لو أن قوماً طاروا من جودة أشعارنا لطرنا، والمسعودي يقول إنهم أوفرُ من غيرهم على اختراع الألحان البديعة، وإنّ غناء أهل اليمن الذي هو الغاية في الجودة هو يمانيٌّ خالص، وحنفي لأهل اليمامة أخذه اليمانية من أهل اليمامة ولكن الجنس الحنفي أجود من اليماني، ولا عجب في هذا إذْ كانت عاصمة اليمامة "حجراً" سوقاً دوليّاً وثيق الصلة بأسواق العراق واليمن وبلاد فارس والحيرة ونحوها، والأصبهاني يذكر أنهم معروفون بلون من الغناء يسمى "النَّصب" وصل إليهم عن طريق جاريتين أحضرهما بِشْر بن مرثد الحنفي من الحيرة، وكانوا في ألوان الغناء الذي يرونه متميزاً عن غيره لا يترددون في دفع المبالغ الباهظة من أجل استجلاب المبدعين في الغناء، والمعروف أن المطرب المعروف في اليمامة باسم "المطرَّز"، أهله من بلاد السند، وقد جلبه من هناك المؤمَّل بن جميل. ولديهم في حِجر شيخان مشهوران في الغناء لا يضارعهما أحد البتَّة، يقال لأحدهما السائب وللآخر شُعبة، أما الشعراء الذين تصقع أغانيهم في منتديات الرياض عدا جرير والفرزدق فما أكثرهم، وما أكثر ما يتردد اسم العُجير السلولي، وأوس الهُجيمي، ومزاحم بن عقيل، والعباس بن يزيد بن الأسود الكندي وحميد بن ثور الهلالي، والمخبَّل السعدي، وإذا مات لهم نديم جاؤوا إلى قبره وشربوا وصبوا على القبر قدحاً من الشراب كلما جاء دوره على العادة قبل موته.
ولكن أكثر ما يكون شرابهم عند قبر الشاعر الأعشى لأنه رائدهم ومبدعهم الذي يفتخرون به على الأنام. على أنهم فوق ذلك أكثر خلقِ الله حباً وشغفاً بقضاء أوقات السِّلم عندهم في الجبال والرمال والمياه والبساتين. والرياض التي تُحدِّق بقلب عاصمتهم حجر، وهل يُحدِّق بها غير الرياض التي كانت إلى وقت قريب، قبل مئة عام، تصل إلى مشارف المئة أو المئتين وما ذاك بغريب؟!
ومثلما هم متميزون عن غيرهم في أوقات السِّلم، فهم أيضاً متميزون في سباق الخيل، وقد عُرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشترى خيل المسلمين قبل فتح مكة من أهل اليمامة، واشتُهر عن الخلفاء ولا سيما هشام بن عبدالملك الخليفة الأموي أنه كان يشتري خيل السبق المشهورة من اليمامة. ويروى أنه كتب إلى والي اليمامة يطلب منه شراء فرس من نسل الحرون، وكان من نسل الحرون فرسٌ تُدعى الجموم كان الخليفة يرغب في شرائها من صاحبها فرفضَ بيعها له ولكن وَهَبَ من نسل فرسه فلْوَاً لابنِ الخليفة فبعث إليه وسبق الناس كلهم في دمشق. وأسماء خيلهم المشهورة هي مَرحب، الورد، سَرَّاج، الخوصاء، فيَّاض. ومن طريفِ ما يروى عن الفرسِ الحرون أنه كان حروناً بالفعل، إذْ كان يسبق الخيل، ثم يحرن فتلحقه ثم ينبعث ويلحق بها ويسبقها، وهم يصفون ركض الحرون بأنه لا يُعدُّ ركضاً ولا عدواً ولا جرياً ولكنه طيران، وشاعرهم يصف فرساً من نسلِ الحرون حين خرجتْ مع الخيلِ بقوله:
خَرَجَتْ سواسيةً معاً وأمامَها
جَلوى تطيرُ كما يطيرُ الشَّوذَقُ
ثمّ إنّ لهم ولعاً برياضة المصارعة، أو السبق على الأقدام، مما هو جارٍ في وقتٍ من أوقات اللهو والسمر عندهم، والمشهورون في المصارعة والجري الشاعر توبة بن الحُمَيّر، وزُرارة بن المخبَّل السعدي، وهلال بن الأسعر، والشاعر الفرزدق، والحديث في هذا يطول ويطول، وفي الجعبة ما هو أولى بالذكر لأن حديثنا عن ذكر الخصائص التي يتميز بها أهل الرياض في العصور القديمة حيث يكون الحديثُ مقدمةً للكلام عن الرياض، أو عن عبقرية المكان والزمان، أو عن عبقرية الرياض في قديم الأزمان، أو قلْ عن الرياض الفيصلان، أو الرياض سلمان.. فلا فرْق.
منْ كتابٍ قيدَ الطبع بعنوان "أيّامُ العرَقِ والطين" للأستاذ عمر الصالح، صاحبُ رحلةٍ طويلة وشيقة مع أديبنا ومعلمنا عبد الله نور، وقد نشر بعضها في صحيفة الجزيرة الموقرة